ذبائح الآباء
كان المذبح ملازمًا للآباء لإيمانهم بقيمة دم الفادي .. فنرى أبانا إسحق يبني مذبحًا.. "فبَنَى هناكَ مَذبَحًا ودَعا باسمِ الرَّب" (تك26: 25).. وكذلك يعقوب أبو الآباء.. "وأقامَ هناكَ مَذبَحًا ودَعاهُ "إيلَ إلهَ إسرائيلَ" (تك33: 20).
موسى
والذبيحة
لقد تنظمت الذبائح فى عصر
موسى النبي - بحسب ترتيب الله الذى أعلنه لموسى على الجبل ..وصار هناك أنواع من الذبائح الدموية (المحرقة، الخطية، الإثم، السلامة)، وشروط في اختيار الذبيحة، وطريقة خاصة للذبح والإيقاد.
وصار هناك سبط خاص بالذبيحة هو سبط لاوي، وكهنة متخصصون هم بنو هارون، ومواسم خاصة تقدّم فيها ذبائح من نوعيات خاصة .. بالإضافة إلى الذبائح اليومية نهارًا ومساءً.. الفصح، ويوم الكفارة العظيم.
وصار هناك مكان مخصوص للذبائح وهو خيمة الاجتماع، ثم هيكل أورشليم.. وكذلك مذبح مخصوص للمحرقة وآخر للبخور.
بل لقد كانت العلة التي أراد موسى النبي أن يخرج بها الشعب من أرض مصر، هي أن يقدموا ذبيحة لإلههم .. "الرَّبُّ إلهُ العِبرانيّينَ التَقانا، فالآنَ نَمضي سفَرَ ثَلاثَةِ أيّامٍ في البَرّيَّةِ ونَذبَحُ للرَّب إلهِنا" (خر3: 18).
وكان خروجهم من مصر مرهونًا بذبح خروف الفصح .. "مُسّوا العَتَبَةَ العُليا والقائمَتَينِ بالدَّمِ... فحينَ يَرَى الدَّمَ علَى العَتَبَةِ العُليا والقائمَتَينِ يَعبُرُ الرَّبُّ عن البابِ ولا يَدَعُ المُهلِكَ يَدخُلُ بُيوتكُمْ ليَضرِبَ" (خر12: 12-23).
وكان فعلاً عند خروجهم من مصر، أنهم أقاموا الذبيحة والمذبح .. "فبَنَى موسَى مَذبَحًا ودَعا اسمَهُ "يَهوهْ نِسّي" (خر17: 15).
التدشين
بالدم
وعند تدشين خيمة الاجتماع
والمذبح وكل أدوات الخيمة.. كان الدم هو وسيلة التقديس والتدشين .. "فأخَذَ
موسَى نِصفَ الدَّمِ ووَضَعَهُ في الطُّسوسِ. ونِصفَ الدَّمِ رَشَّهُ علَى
المَذبَحِ... وأخَذَ موسَى الدَّمَ ورَشَّ علَى الشَّعبِ وقالَ:"هوذا دَمُ
العَهدِ الذي قَطَعَهُ الرَّبُّ معكُمْ" (خر24: 6، 8). حتى تكريس هارون والكهنة كان أيضًا بالدم .. "وتأخُذُ مِنَ الدَّمِ الذي علَى المَذبَحِ ومِنْ دُهنِ المَسحَةِ، وتنضِحُ علَى هارونَ وثيابِهِ، وعلَى بَنيهِ وثيابِ بَنيهِ معهُ، فيَتَقَدَّسُ هو وثيابُهُ وبَنوهُ وثيابُ بَنيهِ معهُ" (خر29: 21).
w ويُعلق مُعلِّمنا بولس الرسول في رسالته إلى العبرانيين على هذا التدشين بقوله:
"لأنَّهُ إنْ كانَ دَمُ ثيرانٍ وتُيوسٍ ورَمادُ عِجلَةٍ مَرشوشٌ علَى المُنَجَّسينَ، يُقَدّسُ إلَى طَهارَةِ الجَسَدِ، فكمْ بالحَري يكونُ دَمُ المَسيحِ، الذي بروحٍ أزَلي قَدَّمَ نَفسَهُ للهِ بلا عَيبٍ... فمِنْ ثَمَّ الأوَّلُ أيضًا (العهد القديم) لم يُكَرَّسْ بلا دَمٍ، لأنَّ موسَى بَعدَما كلَّمَ جميعَ الشَّعبِ بكُل وصيَّةٍ بحَسَبِ النّاموسِ، أخَذَ دَمَ العُجولِ والتُّيوسِ، مع ماءٍ وصوفًا قِرمِزيًّا (لون الدم) وزوفا، ورَشَّ الكِتابَ نَفسَهُ وجميعَ الشَّعبِ، قائلاً: "هذا هو دَمُ العَهدِ الذي أوصاكُمُ اللهُ بهِ". والمَسكَنَ أيضًا وجميعَ آنيَةِ الخِدمَةِ رَشَّها كذلكَ بالدَّمِ. وكُلُّ شَيءٍ تقريبًا يتطَهَّرُ حَسَبَ النّاموسِ بالدَّمِ، وبدونِ سفكِ دَمٍ لا تحصُلُ مَغفِرَةٌ!" (عب9: 13-22).
ما بعد موسى
بالطبع استمر بنو إسرائيل
يقدمون ذبائح للرب الإله ... وإن كانوا - فى بعض فترات تاريخهم - كانوا
ينحرفون عن عبادة الله ويذبحون لآلهة الأمم .. "فعَمِلوا عِجلاً في تِلكَ
الأيّامِ وأصعَدوا ذَبيحَةً للصَّنَمِ، وفَرِحوا بأعمالِ أيديهِمْ" (أع7:
41).حتى سليمان الحكيم نفسه زاغ وراء آلهة غريبة .. "وأحَبَّ المَلِكُ سُلَيمانُ نِساءً غَريبَةً كثيرَةً مع بنتِ فِرعَوْنَ: موآبيّاتٍ وعَمّونيّاتٍ وأدوميّاتٍ وصيدونيّاتٍ وحِثيّاتٍ، مِنَ الأُمَمِ الذينَ قالَ عنهُمُ الرَّبُّ لبَني إسرائيلَ: "لا تدخُلونَ إليهِمْ وهُم لا يَدخُلونَ إلَيكُمْ، لأنَّهُمْ يُميلونَ قُلوبَكُمْ وراءَ آلِهَتِهِمْ". فالتَصَقَ سُلَيمانُ بهؤُلاءِ بالمَحَبَّةِ. وكانَتْ لهُ سبعُ مِئَةٍ مِنَ النساءِ السَّيداتِ، وثَلاثُ مِئَةٍ مِنَ السَّراري، فأمالَتْ نِساؤُهُ قَلبَهُ. وكانَ في زَمانِ شَيخوخَةِ سُلَيمانَ أنَّ نِساءَهُ أمَلنَ قَلبَهُ وراءَ آلِهَةٍ أُخرَى، ولم يَكُنْ قَلبُهُ كامِلاً مع الرَّب إلهِهِ كقَلبِ داوُدَ أبيهِ. فذَهَبَ سُلَيمانُ وراءَ عَشتورَثَ إلهَةِ الصيدونيينَ، ومَلكومَ رِجسِ العَمّونيينَ. وعَمِلَ سُلَيمانُ الشَّرَّ في عَينَيِ الرَّب، ولم يتبَعِ الرَّبَّ تمامًا كداوُدَ أبيهِ. حينَئذٍ بَنَى سُلَيمانُ مُرتَفَعَةً لكَموشَ رِجسِ الموآبيينَ علَى الجَبَلِ الذي تُجاهَ أورُشَليمَ، ولمولكَ رِجسِ بَني عَمّونَ. وهكذا فعَلَ لجميعِ نِسائهِ الغَريباتِ اللَّواتي كُنَّ يوقِدنَ ويَذبَحنَ لآلهَتِهِنَّ" (1مل11: 1-8).
ولكن الأخطر من هذا .. أنه حتى الذين كانوا يعبدون الرب.. كثيرًا ما عبدوه بقلب زائغ وهدف منحرف .. لذلك انبرى الأنبياء يوبخون الشعب .. فالعبادة ليست فقط تقديم ذبائح دون خوف الله.. العبادة هى الرحمة والمحبة والحق .. "إنّي أُريدُ رَحمَةً لا ذَبيحَةً، ومَعرِفَةَ اللهِ أكثَرَ مِنْ مُحرَقاتٍ" (هو6: 6).
لم يكن الأنبياء يقصدون إلغاء الذبيحة، بل تصحيح المفاهيم، كان قد فقد الكهنة هيبة الذبيحة، وزاغت منهم معاني الفداء.
ولديك نموذج سيء هو بنو عالى الكاهن الذين "لم يَعرِفوا الرَّبَّ ولا حَقَّ الكهنةِ مِنَ الشَّعبِ. كُلَّما ذَبَحَ رَجُلٌ ذَبيحَةً يَجيءُ غُلامُ الكاهِنِ عِندَ طَبخِ اللَّحمِ، ومِنشالٌ ذو ثَلاثَةِ أسنانٍ بيَدِهِ، فيَضرِبُ في المِرحَضَةِ أو المِرجَلِ أو المِقلَى أو القِدرِ. كُلُّ ما يَصعَدُ بهِ المِنشَلُ يأخُذُهُ الكاهِنُ لنَفسِهِ. هكذا كانوا يَفعَلونَ بجميعِ إسرائيلَ الآتينَ إلَى هناكَ في شيلوهَ. كذلكَ قَبلَ ما يُحرِقونَ الشَّحمَ يأتي غُلامُ الكاهِنِ ويقولُ للرَّجُلِ الذّابحِِ: "أعطِ لَحمًا ليُشوَى للكاهِنِ، فإنَّهُ لا يأخُذُ مِنكَ لَحمًا مَطبوخًا بل نيئًا". فيقولُ لهُ الرَّجُلُ: "ليُحرِقوا أوَّلاً الشَّحمَ، ثُمَّ خُذْ ما تشتَهيهِ نَفسُكَ". فيقولُ لهُ: "لا، بل الآنَ تُعطي وإلا فآخُذُ غَصبًا". فكانَتْ خَطيَّةُ الغِلمانِ عظيمَةً جِدًّا أمامَ الرَّب، لأنَّ الناسَ استَهانوا بتقدِمَةِ الرَّب" (1صم2: 12-17).
هوشع النبي ما كان بنبوته يلغي الذبيحة الدموية، ولكنه يكشف لنا عن التدهور الحاصل في روحانية الناس، وإدراكهم لمعنى الفداء الكائن في الذبيحة.
وهذا أيضًا يعلن لنا عدم كفاية الذبائح الحيوانية، ويعلن انتظار البشرية للفادي الحقيقي.. "بذَبيحَةٍ وتقدِمَةٍ لم تُسَرّ َ... مُحرَقَةً وذَبيحَةَ خَطيَّةٍ لم تطلُبْ. حينَئذٍ قُلتُ: "هأنذا جِئتُ" (مز40: 6-7).
"اِسمَعْ يا شَعبي فأتكلَّمَ. يا إسرائيلُ، فأشهَدَ علَيكَ: اللهُ إلهُكَ أنا. لا علَى ذَبائحِكَ أوَبّخُكَ، فإنَّ مُحرَقاتِكَ هي دائمًا قُدّامي. لا آخُذُ مِنْ بَيتِكَ ثَوْرًا، ولا مِنْ حَظائرِكَ أعتِدَةً. لأنَّ لي حَيَوانَ الوَعرِ والبَهائمَ علَى الجِبالِ الأُلوفِ. قد عَلِمتُ كُلَّ طُيورِ الجِبالِ، ووُحوشُ البَرّيَّةِ عِندي. إنْ جُعتُ فلا أقولُ لكَ، لأنَّ لي المَسكونَةَ ومِلأها. هل آكُلُ لَحمَ الثّيرانِ، أو أشرَبُ دَمَ التُّيوسِ؟ اِذبَحْ للهِ حَمدًا، وأوفِ العَليَّ نُذورَكَ" (مز50: 7-14).
إن الذبيحة
المجردة من المعنى الروحي،
ومن التقوى،
ومن روح الصلاة، هي بلا قيمة وغير مقبولة.
وعلى أي
الأحوال ..
ما كانت
الأمور تستقيم إلاَّ بذبيحة السيد المسيح.
إن السيد المسيح هو غاية
العهد القديم .. وهو المعنى والقوة والتحقيق لكل ذبيحة ذبحت لله في العهد
القديم. وبدون ذبيحة الصليب، يصير ما حدث في العهد القديم غير مفهوم وبلا
معنى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق